منصور سروري
انعدام فرص الشغل بفعل الحرب التي أجهضت سائر الأنشطة الاقتصادية أودت بالزوج إلى ملازمة البيت.
أكبر الأولاد الستة لايزال في السنة الأولى بالجامعة، وأصغرهم بالصف الثالث ابتدائي.
منذ أسبوع والمؤجر يصبحهم ويمسيهم بدفع الإيجار، أو سيلجأ إلى طردهم من البيت إذا لم يسلموا الإيجارات المتأخرة عليهم منذ بضعة أشهر.
أمام هذه الظروف القاهرة لم تجد هند بين يديها من حلول سوى ارتياد أسواق التسول العامرة بالمتسولين.
تخرج هند إلى الشوارع … ترتاد التجمعات البشرية فتارة تقف بمداخل المساجد، وتارات آخر أمام أبواب المدارس، ومؤسسات الدولة، ومنافذ أسواق القات.
حرصت عند ارتياد سوق القات أن تختار المدخل الرئيس للسوق ترابط عليه سيارة صالون سوداء اللون يبيع صاحبها قاتا من النوع الفاخر.
ترى رجلاً تبدو عليه آثار الثراء يقف قبالة بائع القات.
تقف جواره، وتبسط كفها إليه، ولسانها يرتل عبارة حزينة ” الله لا يريك أي مكروه يا أخي ساعدني بحق إيجار البيت”.
لم يكترث الرجل أو يأبه لتوسلاتها.
يخرج من جيب معطفه الداخلي حزمة كاملة من فئة الخمس مائة ريال، يلقي بها بين يدي المقوت.
المقوت يحلف آيماناً مغلظة “والله فوق حالي ومالي ما يخارج، ولا حتى برأس المال”.
يدس الرجل يده في جيب معطفه مرة ثانية … يخرج حزمة أخرى … يعد منها عشرة أوراق.
يكرر المقوت نفس جملته السابقة.
يعد عشرة أوراق أخرى، يلقيها بين يدي المقوت، وهو يردد ” والله ما أزيدك ريالا واحدا على الستين ألف ريال”.
يلملم المقوت الأوراق والرزمة … يدسها في كيس النقود.
المرأة وهي تشاهد الرجل والنقود التي في جيوبه تعشمت فيه الخير، فألحت أكثر بالدعاء له والتوسل إليه.
يأخذ الرجل الثري الكيس الممتلئ بأعواد وغصون الخيال الخضراء، وينصرف خارجاً من السوق دونما يأبه لتوسلات المسكينة التي أطلقت لساقيها الريح خلفه.
يصل الرجل إلى سيارته … يفتح الباب بجهاز اليد اللاسلكي… يجلس خلف مقود السيارة.
المرأة تطرق زجاج نافذته، وراحة يدها مبسوطة ، وتهزها كي يراها فلربما يتحنن مترقرقا قلبه لمنظرها.
يشغل السيارة …. ينزل زجاج نافذته.
المرأة ترتل جملا كثيرة ومتسارعة ” الله يحفظ لك أولادك، الله يجنبك كل مكروه، ساعدني يا أخي، والله شيبارك لك برزقك وعمرك.
أخيراً يلتفت إليها بعينين زائغتين تائهتين، وقلبه، وعقله الله وحده يعلم أين يكونا..!
وهو ينفخ بدخان سيجارته ينطق مؤمناً على دعاءها ” آمين… آمين… الله كريم يا خالة”.
تتحرك السيارة منطلقة من مكانها.
تجثو المرأة على رصيف الشارع، تدس وجهها بين كفيها، وتحت خمارها، تهتز مكسورة الخاطر … وترتعش كمصاب بالحمى في صقيع برد كانون.