ريان الشيباني
مع كون إثارة الجدل هي المحرك لصناعة الشهرة في مواقع التواصل الاجتماعي، لا أستبعد -دائمًا- أن من نضحك عنهم هم من يضحكونا منا، وبملء أشداقهم. عندما رأيت هشام الشويع لأول مرة، لم أشك لحظة في كوننا نحن الضاحكون من أسلوبه في الحياة واقعون في معضلة الانخراط الجماعي والمتابعة الحثيثة لما نعتقده شيئا تافهًا ولا يستحق حتى مجرد النظر إليه.
يستطيع هؤلاء (الساذجون) بوعي أو من ذكاء فطري جرّنا إلى مربعاتهم، وجعلنا قطيعيين أكثر مما يتطلب المشهد. جعل الرداءة جذابة مهمة ليست شاقة، لكن مهمة استدراجنا إلى هذا المستنقع هو ما يتطلب مراسًا وكاريكاتور عصري مصمت، لا يأبه -بالضرورة- لسخريتنا وانتقادنا وآرائنا البناءة، طالما كان المحتوى المقدم لحضراتنا، معد أصلاً كفخ.
تقارب تجربة الشويع تجربة أخرى أكثر ثراءً -في مستوى نقدنا للشعبوية- هي تجربة أحمد عضيمان أل. لو بدأنا بالـ”أل” في نهاية هذا الاسم، سنجد قصة لا تقل أهمية، في طريق تفكيكنا للظاهرة العظيمانية، التي تجد في “العجلة” و”الفوضى” و”اللاشيء” مشيئتها. لما لا أفترض -أي هذه الـ”أل”- أداة تعريف للقب كان يجب أن يتم لولا الخبرة الساذجة لصاحبها في مسائل التقنية، لنصبح -نحن الجمهور العظيماني- واقعون أمام لعبة إبهام واجتزاء هي في الأصل محركًا لاواعيًا لهوسنا ولتنفيس حقدنا المتنامي على حالة النظام العام.
نعم النظام الذي صار شماعة لتعليق اخفاقتنا من أننا بالفعل فشلنا. بدأت الحالة العظيمانية من الريف، من (دشمة) حراسة حقل قات بمحافظة الضالع، على غير الظاهرة الشويعية التي تجسد إخفاق المغترب في الإفصاح عن هويته. مع الأول نرى اليمني الخائف المتواري العجول، في ظل حرب تغولت فيها القرية على المدينة وطمست معالمها ومعالم نخبها، ومع الثاني سذاجة وعبط وهبل اليمني الذي لم تطبعه بيئة اغترابه ليكون أكثر ذكائًا.
لكن شخصية عظيمان تفصح بشكل أوضح عن الشيزوفرينيا الاجتماعية التي تنشأ من محاولة الاندماج في العصر (استخدام التكنولوجيا) والواقع الجدب الذي لا نستطيع من خلاله إلا أن نصدر هذه الصورة البائسة لنا إلى العالم. لكن أيضا لا يمكن تجريد الشعبوية (التابعة) من ذكائها، حين النظر إلى الجملة التعبيرية التي تصنع من خلالها أبطالها.
فجمهور الشويع عند تتبع تعليقاته تجدوه عدوانيًا ومسعورًا، أي إنه يلمس بنوع معين من الفطنة، أن الشاب اليمني (الشويع) محل السخرية، هو من يسخر منهم. طبعًا هم لا يستطيعون اكتشاف التفاصيل الدقيقة للخدع المنطلية عليهم، لكن يميزون بعض سماتها، ومن ذلك تعمد الشويع تشويه الأغاني لا تجويدها أو الاكتفاء بمحاكاتها، وتقديم فيديوهات كليب لا تقل رداءة..
الرداءة هنا مقصودة بحد ذاتها لخلق الحراك وموائمة العصر، إ ضافة إلى تفصيل آخر يعطي الرجل ميزة أن يكون شابًا مبغوضًا، من خلال ملابسه التي تقدمه كاريكاتورًا خليجيًا متنكراً لهويته المحلية. هذه أزمة أخرى، لكنها متعلقة هنا بالهوية، وحقد اليمني على كل ما من شأنه الانسلاخ، أو الاندماج في بيئة جديدة ضداً على أخرى متباينة لكنها شديدة الحساسية تجاه مسألة تجريفها.
وبالعودة، يمكن ملاحظة جمهور عظيمان أكثر لطفًا وتسامحًا، إلى الدرجة التي تعتقد فيها أن لا خدعة للحديث عنها. لكن فكرة تمجيد عظيمان تعطي صورة جزئية عن كم هي الذاكرة الجمعية حقودة ومنتقمة. في العام ٢٠١١، انحازت هذه الذاكرة للثورة، لكن بالقدر الذي تضافرت فيه الجهود لجعل هذا الفعل كارثيًا وكلفته عالية، ذهبت الحشود -إلكترونيًا- لنشدان المزيد من الفوضى بل تمجيد كل تجلياتها.
إنها محاولة لقول شيء في وجه النخب وجماعات النظام، والصوابية السياسية وحراس الفضيلة والأخلاق. يشرح كتاب فكر اللغة الروائي كيف أن الثورة الفرنسية لم تكتف بإسقاط الملكية، بل تعدتها إلى وظيفة اللغة واستخداماتها. وبقدر ما عبرت الرواية عن تطلعات عصر كامل، حملت مقتضيات التغيير فيها، وكسرت سياق النظام العام، وشوهت الروح الارستقراطية المتعالية للغة. من هنا أيضًا، يمكن تفهم كيف أن الاستخدام الدارج للغة، أصبح في كثير من الأحيان لغة تعبير مفهومة ويومًا عن يوم يكتسب جمهورًا أوسعًا، لكن ماذا عن الظاهرة المومرية؟ وأين يجب أن تقف بين كل هذا؟
لم أكن متتبع جيد للظاهرة المومرية، لكن لا شك بأن قدرتها على التأثير والنفاذ أصبح خطيرًا بما لا يقاس من الظاهرتين السابقتين أعلاه. مكمن الخطورة في هذه الظاهرة تسربها خلسة إلى منابر الفرجة العامة، دون حاجة للنظر في السياق أو وضع أخلاقيات المهنة محل اعتبار، طالما كنا نتحدث عن شخصية عامة (بمحمول ثقافي صفري).. تقول كلمتها في الشأن العام السياسي، على غير الشويع/ عظيمان ذوي الاهتمام الثقافي.
ما ماز سلوك المومري الطائش، قدرته الفطرية على الحشد، ما مكنه من جمع تظاهرة كرنفالية كبيرة في حفل زفافه، في الوقت الذي تخشى فيه الجماعات السياسية الحاكمة كل أشكال التجمعات العفوية، ليضع أسئلة جديدة حول مقدرة مواقع التواصل على تحشيد الخلق، ولو لأسوء القضايا وأردأ المناسبات، وأسئلة أخرى عن التاثير الكارثي لخوارزميات التواصل الاجتماعي على الواقع.
هذه الاسئلة بقدر ما هي باعثة لقلق السوسيولوجيين، لا تقل صداعًا في رأس الجماعات التي تحكم وتجمع الناس بالتبعية. إذا لم يخن التقدير، فالمومري آتٍ من داخل بيئة “الشوترة”، وهي تسمية شاعات في السنوات الأخيرة لتشمل مجتمعا كاملاً من شباب الحارات العاطلين، وسواقي الدرجات النارية، وأخويات شبابية أخرى انخرطت في البحث عن الكيف داخل المقايل الليلية لأعراس صنعاء، لتمضية الوقت، وخلق جو من النشوة التي تبدد ساعات العطالة والحرب.
ومثلما يمكن لمجتمع ذكوري محبط كهذا أن ينتج نجوماً غامضين وعدوانيين بمقاييس المومري، يمكن لفنانين ذو موهبة وصنعة كالفنان حمود السمة أن لا يكونوا أقل تأثيرًا ونجومية في هذا الوسط، ولأن معايير عمل هذا الوسط، لا تعطه فرصة الاستماع لانتقادات النخب وخاصة الحقوقية منها، من حيث كون الرائج في الأغاني والعظات لا يحتمل الترشيد، وبذيء بطريقة مُسفّة، إلى جانب سمات أخرى تبدو أنها تزدهر في وسط ذكوري محض لا يأبه لما تخلفها من ردود أفعال. السمة كان قد رفض بشكل قاطع انتقادات وجهت له، على أن غناؤه بتلك الطريقة وفمه محشو بالقات، منافٍ للذائقة العامة ويكرس نوعًا جديدًا من الاسوة السيئة بين الناشئة. هنا تخلّقت حرفيًا ظاهرة الفنان المراهق الموهوب أصيل أبوبكر، بما تمثله من صعلكة وشتات.
المومري إذن مشوتر كلاسيكي أو يحمل ذات الجينات، لكن مع انعدام الموهبة، تطفو السفاهة وتنعدم القيمة، إلا في كونه يمكن أن يقول شيئًا بحسن نوايا الرجل الأمي وذربة لسانه، ليتلقى نظير ذلك ملايين الاعجابات والمشاهدات التي أضفت إلى عطالته وسخطه ميزة تلقي أموال.. أمام جمهور يرى في كل ذلك انتقامًا عادلًا لمشاعره المكبوتة. نعم، هكذا تخلق الذاكرة المقهورة نماذجها وتتحدى بها تذاكي النخب، حتى لكأن أحد مقتضيات البحث عن الذات يكمن في استخدام اللغة السوقية في تحليل الوضع العام، إن لم تكن فرصة ثمينة لكسب لقمة العيش منها.