غسان خالد
عن دار خطوط وظلال صدرت الطبعة الأولى 2021 من رواية الحقل المحترق للروائي اليمني ريان الشيباني
يتحرك السرد ضمن التخييل التاريخي في ظل المادة التاريخية.
اتت الرواية في قسمين، بدا القسم الأول منها بوظيفة إضافية تمهيدية، لتبرير الرواية لنفسها وتفسيرها لذاتها في اطار الرمزية.
تتموضع الرواية في ذلك الزمن الهش والأزلي من تاريخ البلدة المتخيلة ” .. البلد المهووس بإستقبال الاجانب كمخلصين, ومن ثم دفنهم على ترابه كمحتلين, ينتهي بهم المطاف إلى مساحة مستطيلة من التراب, أن لم يتم إخراج جثثهم بعد ذلك, لسرقة أطقم اسنانهم الذهبية ونزع خواتم رباطهم المقدس”. تلك هي اللازمة التي يتم مداورتها تاريخياً بين مالات الحقب التي طغت على البلدة.
القسم الأول:
تأخذنا الرواية من الساحل الأفريقي إلى الإستانة, ثم تهبط بنا نحو البحار المنحدرة. بما يوازيه من انحدار تاريخي لإمبراطورية الست مائة عام, حيث كل الدلالات باعثة على الموت, وباعثة على الغموض الذي يعتمل في داخل الإنسان على هيئة تناقض ورغبات على غير ما يريده النظام العام.
تقرير خاص بمثابة وشاية صغيرة يقذف بشخص غامض وغير مفهوم إلى منصب والٍ امبراطوري, بما يحيطها من غموض والتباس في فهم طبيعة الوالي المحتمل.تأتي حياته المسرودة منذ ولادته حتى ما سيصير إليه في القسم الثاني من الرواية، معادل موضوعي وتجسيد داخلي وخارجي للشكل الذي انهارت عليه الامبراطورية الكبيرة.
ثمة اشارات في هذا القسم واحالات موضوعية إلى لوحات فنية, و أقوال فلسفية تصبغ تلك المرحلة التاريخية برائحتها, حيث الاحداث الكبرى التي رافقت تحولات جذرية في السياسة والأفكار والفنون جميعها, التي شكلت مفاهيم الحداثة.
القسم الثاني:
ثنائية الوباء والمال كانت ثيمة طاغية على تحركات الأفراد, تلك هي شفرة الزمن الأعمى الذي يجتر تاريخ البلدة جيل بعد جيل.
يهبط بنا السرد إلى تلك الأشياء الدقيقة المخاتلة للفهم, حيث يتم تجزأة المفهوم المكيافيلي نفسه, حيث الوسائل تحدث لذاتها ومنها تتوالد غاياتها الغير مدركة بسلوك داخلي خالص. تلك التصرفات الواضحة, التي لاتحجبها الأسمال الفارهة في مواكب الحاشيات , حيث الوباء والفقر هما السلطة الحاكمة للبلدة، والمنوط بهما جر الحياة إلى الأسفل. تلك الطريقة التي لا تجعل الأعلى أعلى لأنه بالفعل يرتقي مسافة فارقة, انما تجعله كذلك لأنه يعتلي سباخ العالم السفلي, تلك المساحة المتاحة والخاصة بعالم القوارض الليلة ( مثل أن يصبح الأنسان في عالم سفلي بصدد منافسة فأر أرضى على مساحته عنوة, ويصبح ذلك الانسان المسحوق تهديداً فعلياً لحياة هذا الكائن الأرضي المعشش في زوايا يعرفها الجميع). وفي موازاة ذلك تقترب مقاربة أفقية أخرى من وجهة نظر اروبية, في رؤية الشرق غريباً ومتخلفاً ” حتى لو كلفهم ذلك التقاط مؤخرات الذين يستنجون في مياه الشاذرونات الحجرية”.
أفكر بتلك الطريقة من التحكم التي تجعل الأنسان أبخس الكائنات, فرداً لايحق له أمتلاك أشياء جميلة, أو بناء طموح حياتي – أعتماداً على حياة فلاحية- أعلى من سقف رأسه. سيجد نفسه مسلوباً كمن يصنع لنفسه بكد عرقه مشنقة من اجل نفوقه الاخير ذلاً. تلك أسهل الطرق لاستبدال محراث الأرض, بفوهة النار, كوسيلة وحيدة و أخيرة ضمن معادلة البقاء. إذ يتحول مجتمع الفلاحة إلى عصى لقاطع طريق البلدة المتخيلة.
في حين أنه – حسب مقتضيات استخدامه الجديد- لا بد أن يجر المال إلى الأعلى. تلك الطريقة المثيرة والساخرة التي يمكن اعتبارها من نظرة أجنبية/غربية ضرباً من ضروب العالم المختلق, أو ما يمكن أعتباره ( السحرية المستنقعية) إن صح التعبير. الأمر لا يرتبط, بتدفق تاريخي ضمن الدورة الزمنية للحضارة, بل بولادة كائن بصفات شخصية توهله لإدارة المستنقع بمهارة بيولوجية عالية.
نجح أسلوب الكاتب في الاقتراب من مساحة عالم القوارض الأرضية. حيث اللغة وحدها لا يمكنها استيعاب خصوصية المكان, وابعاده الثقافية، بل بمساعدة من الرصيد الشفاهي من (الحكمة المستنقعية), والأمثال والعبارات الثقافية الدارجة ذات الخصوصية المحلية التي تطورت ونمت في ذلك المستنقع, و تواجدت بمهارة محببة في ثنايا النص. وهذا ما يمكن فهمه في السياق الثقافي بالنسبة للقارئ المحلي المطلع, وفي السياق الغرائبي بالنسبة للقارئ الأجنبي.
بالطابع الاسلوبي الساخر والتهكمي, ونباهة السرد نجحت الرواية في الأقتراب من عالم البلدة المتخيلة، الغير مرئي, وقدمت لنا في بناءٍ تخييلي درساً عميقاً. في عمق المأساة السفلية في البلدة المظلمة -الشبيه إلى مستو ى ما بالاجواء الأورويلية- يسحق الانسان تماما، غير أنه من المحال سحق فعل اعتراضه الداخلي. كلما سحقت مكتسبات الأنسان الحياتية, كلما كان فعل اعتراضه الداخلي لامعاً وحاذقاً وأكثر امضاءً من أي أفعال أخرى مخدرة بالآمال.