يوميات محمد علي الحامي
7 نوفمبر 1921
أنا ذلك الطفل، حمّال القفة في فندق الغلّة، عدت إلى غرفتي الصغيرة في حديقة المنزل الفخم الذي يؤجّره طلعت باشا. عدت أطير من الفرح والتفاؤل، فقد أصبحت اليوم طالباً مرسّماً في جامعة همبولت ببرلين بشعبة العلوم الاقتصادية.
أنا ذلك الطفل، حمّال القفة في فندق الغلّة، سجّلت لأربع مرّات على التوالي كطالب حرّ بجامعة فريديريش ويلهايم برلين، واجتزت اختبار مستوى اللغة الألمانية بنجاح أدهش ممتحنيّ. خلال خمس ثلاثيّات كنت أدرس ليلا وأعمل بالنهار في مصنع للسيّارات، وهو ما ساعدني على تحسين لغة التخاطب بالألمانية، إضافة إلى الدّروس التي تلقّيتها في اسطنبول خلال التدريب العسكري مع ضبّاط ألمان.
أنا ذلك الطفل، حمّال القفّة في فندق الغلّة، حلمت كثيراً، وكان خيالي مجنّحاً، لكنّي أبداً ما حلمت بقفزة عملاقة مثل هذه: قفزة تزيد من مسؤوليّتي تجاه أمّتي وشعبي.
أنا ذلك الطّفل، حمّال القفّة في فندق الغلّة، ماتت أمّي وأنا طفل، ووجدت الحنان في كلّ امرأة اعترضت طريقي. حتّى النّساء الافرنجيّات اللائي حملت لهنّ قفافهنّ، كنّ يعطفن عليّ وينظرن إليّ بإشفاق، كنت دوماً صنيعة نساء عطوفات، أنقذنني من تيبّس الأحاسيس وتصلّب الرّوح، والسقوط في مهاوي التحجّر الإنساني الذي أصبح الطباع السائد في عصرنا. بتلك الشّحنات العاطفية قاومت اليتم والتشرّد، بتلك الابتسامات الهادئة السّرية أحياناً، بتلك اللّمسات الصغيرة على الشعر، وتربيتات خفيفة على الكتف، صمدت أمام الصفعات التي تلقيتها من رجال لم أسئ لهم قطّ، رجال كانوا دوماً بحاجة لإثبات أنّهم رجال أقوياء، حتى أمام طفل لا حول له ولا قوّة.
نظرات امرأة كرديّة وابتسامتها جعلتني أقاوم الوحدة والغربة أوّل إقامتي في اسطنبول. امرأة تربّي طفلين يتيمين مات أبوهما في حرب لا ناقة له فيها ولا جمل، تقاوم شظف العيش ونظرات الذّئاب بدرع ابتسامة من حرير، وحلويّات صغيرة تصنعها بيديها في البيت منذ الفجر وتخرج لتبيعها للجنود والتجّار. لم تكن تتكلّم سوى الكرديّة، وكانت تقبل أيّة قروش تمدّها لها الأيدي التي تأخذ حلواها.
كنت أسكن قبالة بيتها وحيداً، لا أصدقاء ولا معارف، وكلّ زملائي في العمل يعاملونني باستعلاء ورؤسائي يتعاملون معي ببرود قاتل ورسميّة لم أتعوّد عليها حتى حين كنت سائقاً لدى القنصل النّمساوي في تونس. لا أدري كيف حدست أنّي غريب، ولم تقبل قروشي التي مددتها لها مقابل الحلويّات التي أخذتها من الطبق الذي تحمل بين أحضانها كوليد.
كانت أوّل مرّة أتذوّق فيها القطايف ولن أنسى طعمها ما حييت. مازال طعمها في فمي بعد سنوات، ومازالت طرقات الصبيّ ذي الستّ سنوات على باب بيتي، ويده الممدودة بالصحن يضمّ خمس حبّات من القطايف، ونظرات أمّه تحرسه من خلف الباب الموارب كلّ صباح تمدّني بفيض من نور يشدّ أزري كلّما سيطر الرّمادي على أفقي.
كيف تهرب بنا الذّكريات من حاضرنا وتأخذنا في رمشة عين إلى أماكن ووجوه لن يمنحنا الزّمن فرصة أخرى لرؤيتها؟
جلست أمام طاولتي وفتحت دفتري كي أكتب تفاصيل فرحتي الآن، والأفق الذي فتحه ترسيمي بالجامعة، فإذا بي أعود إلى هناك كأنّي لم أغادر حارة الجامع الصّغير، ولم أقطع آلاف الكيلومترات هروبا من كابوس الهزيمة في الحرب، وركضاً وراء حلم أحاول ترويضه.